"232 شهيداً من أصحاب القلم".. استهداف الصحفيين في غزة بين الإدانة والعجز
نزيف لا يتوقف
في غزة، حيث تُسطر الكلمة تحت القصف وتُلتقط الصورة وسط الدمار، ارتفع عدد الشهداء من الصحفيين الفلسطينيين إلى 232 منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر الماضي، وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في القطاع، وخلف كل رقم اسمٌ وقصة وأسرة، وخسارة لا تُعوض في معركة باتت الحقيقة نفسها من أبرز ضحاياها.
يأتي هذا الإعلان بعد استشهاد الصحفي آدم أبو هربيد الذي انضمّ لقائمة طويلة من الصحفيين والمصورين والكوادر الإعلامية الذين قضوا خلال تغطيتهم المباشرة لأحداث الحرب الأعنف في تاريخ القطاع المحاصر منذ نحو عقدين.
في بيان شديد اللهجة، أدان المكتب الإعلامي استهداف الصحفيين الفلسطينيين بشكل ممنهج، داعيًا إلى تحرك عاجل من الاتحاد الدولي للصحفيين، واتحاد الصحفيين العرب، وجميع الكيانات الصحفية عالميًا لوقف هذه الجرائم التي وصفها بالممنهجة والوحشية.
نزيف الأرقام.. إحصاءات تكشف حجم الكارثة
منذ الساعات الأولى للحرب، كان الصحفيون في غزة في قلب العاصفة ينقلون مشاهد القصف والدمار ومعاناة العائلات التي تبحث عن مأوى وغذاء ودواء، لكنهم كانوا أيضًا هدفًا مباشرًا.
بحسب تقرير لجنة حماية الصحفيين (CPJ) الصادر في يوليو الجاري، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة أودت بحياة أكبر عدد من الصحفيين خلال مدة زمنية قصيرة مقارنة بأي نزاع منذ بدء توثيق اللجنة لانتهاكات حرية الصحافة عام 1992.
تشير اللجنة إلى أن ما لا يقل عن 90% من الصحفيين الذين قُتلوا هم فلسطينيون، معظمهم سقطوا خلال أداء عملهم الميداني أو استهداف منازلهم بشكل مباشر.
تقرير مراسلون بلا حدود (RSF) بدوره وصف غزة بأنها أخطر مكان في العالم للعمل الصحفي، مؤكّدًا أن بعض الاستهدافات جرت رغم معرفة القوات الإسرائيلية المسبقة بوجود الصحفيين، وهو ما يثير شبهات بارتكاب جرائم حرب.
شهادات من قلب الميدان
يقول الصحفي الفلسطيني محمد الجمل، الذي أصيب مرتين خلال تغطيته للغارات الإسرائيلية في تصريحات صحفية: "نحمل الكاميرا ونحن نعلم أنها قد تصبح شاهدًا على مقتلنا، لكن الأمانة الصحفية تُلزمنا بنقل ما يجري، حتى لو دفعنا حياتنا ثمنًا"، بينما أكد المصور حسن المغربي أن كثيرًا من الصحفيين اضطروا للعمل دون سترات واقية أو خوذ بسبب نقص المعدات الناتج عن الحصار، ما جعلهم أكثر عرضة للإصابات والموت.
إدانة دولية
على المستوى الدولي، صدرت بيانات إدانة عديدة من منظمات حقوقية وصحفية، فقد عبّر مفوض الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان فولكر تورك عن القلق العميق حيال استهداف الإعلاميين، داعيًا إلى فتح تحقيقات شفافة ومستقلة.
كما دعا الاتحاد الدولي للصحفيين إلى توفير ممرات آمنة للصحفيين في غزة، وأدان قتل الصحفيين بشكل متعمد، أما منظمة العفو الدولية فأكدت في تقريرها الأخير وجود أنماط واضحة لاستهداف الصحفيين ومقار وسائل الإعلام، ما يرقى إلى انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
لكن رغم هذه الإدانات، يرى مراقبون أن الرد الدولي ظل في إطار البيانات دون خطوات عملية فعالة لحماية الصحفيين أو محاسبة المسؤولين عن قتلهم.
لماذا يُستهدف الصحفيون؟
في نزاع تدور رحاه بقدر كبير في ساحات الإعلام، تصبح السيطرة على الرواية أداة استراتيجية.. تقول الباحثة في شؤون الإعلام والنزاعات لارا حسن في تصريحات مرتبطة بالأزمة: الصحفيون في غزة لا ينقلون فقط أرقام الضحايا، بل يقدمون صورًا مباشرة ومعايشة ميدانية للمعاناة الإنسانية، هذه الصور تزعج الآلة الدعائية الإسرائيلية التي تسعى لتسويق الرواية الأمنية فقط.
إضافة إلى ذلك، أدت قيود إسرائيل على دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة منذ سنوات إلى جعل الصحافة الفلسطينية المحلية المصدر شبه الوحيد للمعلومات والصور، ما ضاعف من استهدافهم.
الصحافة في غزة بين الحصار والقصف
ليس استهداف الصحفيين في غزة أمرًا جديدًا، بل امتدادًا لنهج طويل. ففي عدوان 2014 على القطاع، وثّقت مؤسسات حقوقية استشهاد 17 صحفيًا، وفي مسيرات العودة عام 2018، قُتل صحفيان فلسطينيان بالرصاص الحي رغم ارتدائهما سترات "Press".
لكن حرب أكتوبر 2023 مثلت تحولًا غير مسبوق في الحجم والوحشية؛ إذ تجاوز عدد شهداء الصحفيين خلال أشهر قليلة ما سجل في كل النزاعات السابقة مجتمعة.
أصوات مطالبة بالعدالة.. لا للإفلات من العقاب
حمل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة السلطات الإسرائيلية والإدارة الأمريكية والدول الداعمة مثل المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم.
كما دعا إلى تقديم المسؤولين عن قتل الصحفيين إلى المحكمة الجنائية الدولية، معتبرًا أن إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب يشجع على تكرارها.
وفي السياق ذاته، دعت مؤسسات إعلامية عربية ودولية إلى إدراج استهداف الصحفيين ضمن ملف الإبادة الجماعية التي تُرفع أمام المحاكم الدولية.
الخوف لا يلغي الواجب
رغم الخطر، لا تزال عشرات الفرق الإعلامية الفلسطينية تعمل داخل غزة، هؤلاء الصحفيون غالبًا ما يعملون تحت ضغط نفسي هائل، دون معدات حماية كافية، وفي ظل انقطاع الكهرباء وشبكات الاتصال.
بينما تتسارع التطورات في الميدان، يظل مطلب حماية الصحفيين ملحًا أكثر من أي وقت مضى. المكتب الإعلامي في غزة دعا إلى ممارسة ضغط دولي حقيقي لوقف جريمة الإبادة الجماعية وحماية الإعلاميين من الاغتيال والقتل الممنهج.
كما طالب الصحفيون في بيانات مفتوحة بتوفير ممرات إنسانية لنقل المصابين، وتوريد معدات الحماية الأساسية، وضمان وصول المراسلين الدوليين إلى القطاع لكسر الحصار الإعلامي.
منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر الماضي، تكبّد قطاع غزة خسائر بشرية غير مسبوقة في تاريخه الحديث، حيث تشير تقديرات وزارة الصحة في غزة وتقارير المنظمات الأممية إلى استشهاد أكثر من 59 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب إصابة أكثر من 140 ألفًا آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، بينهم آلاف باتوا يعانون من إعاقات دائمة، ولم تقتصر المأساة على الأرقام، بل شملت أيضًا تدميرًا هائلًا للبنى التحتية المدنية والمستشفيات والمدارس ومخيمات النزوح، ما فاقم من أزمة إنسانية خانقة يعيشها أكثر من مليوني إنسان في ظل نقص حاد في الغذاء والمياه والأدوية، وانهيار شبه كامل للنظام الصحي، وبينما تستمر العمليات العسكرية بلا هوادة، يتزايد القلق الدولي من تفاقم الكارثة وتحول القطاع إلى منطقة غير صالحة للحياة.